ادعمنا

التنظير الماركسي في العلاقات الدولية - Marxism Theorizing in International Relations

تطورت الماركسية على نحو ملحوظ منذ أن أرسى أفكارها الأساسية كارل ماركس- Karl Marx وفريدريك إنجلز-Friedrich Engels في منتصف القرن التاسع عشر، وقد طرأت تغييرات على تفكير ماركس أثناء حياته ولطالما  كانت نظرياته عرضة لتأويلات متضاربة، وعلى الرغم من تعرض ماركس للرأسمالية تحليلاً وانتقاداً وإقراره بأن الرأسمالية تمثل إقتصاداً شاملاً، إلا أنه لم يطور مجموعة منتظمة من الأفكار بشأن العلاقات الدولية وظواهرها المختلفة بوضوح، وإنما أُلقيت هذه المسؤولية على عاتق الأجيال اللاحقة من المنظرين الماركسيين، ويضاف لذلك أن تبني الإتحاد السوفياتي وجمهورية الصين الشعبية للآيديولجيا الماركسية بوصفها العقيدة الرسمية للبلاد قد ألّح بالحاجة لتطوير أفكار ماركس وذلك خدمة للمصالح الوطنية لتلك الدول.

ويندرج تحت مسمى (النظرية الماركسية في العلاقات الدولية) العديد من التيارات التي تقدم مُقاربات مختلفة لتفسير العلاقات الدولية، وتتناول بصورة خاصة مسائل التباين بين الدول المتقدمة والدول النامية، وتفسير ظواهر هامة في العلاقات الدولية مثل: (الإمبريالية، النزاعات الدولية، التبعية، التبادل اللامتكافئ، والعولمة)، ومع اختلاف هذه التيارات واختلاف تفسيراتها إلا أنها تشترك في جذورها المنبثقة عن الفكر الماركسي.

ويعزو العديد من الأكاديميين أسباب انحسار الإهتمام بالتنظير الماركسي في العلاقات الدولية للإعتبارات الآيديولوجية والجغرافية، فمن ناحية الآيديولوجيا: فقد صاحب الحرب الباردة إقصاء وتهميش آيديولوجي متبادل ما بين المعسكرين الشرقي الماركسي والغربي الليبرالي، وامتد هذه الحالة لنحو خمسة عقود (1945-1991).

ومن ثم جغرافياً فقد أثر الموقع الجغرافي سلباً على إنتشار التنظير الماركسي، حيث لم تلاقي هذه الأطروحات رواجاً إلا في الكتلة الشرقية والكثير من دول العالم الثالث وتحديداً في أمريكا اللاتينية وأفريقيا (حيث برز جُل المنظرين الماركسيين الجدد في تلك الدول).     

ويجادل العديد من المنظرين في حقل العلاقات الدولية بعدم وجود نظرية ماركسية في العلاقات الدولية، ويعتبرون أنها مجرد محاولات تنظيرية جزئية لبعض ظواهر العلاقات الدولية، أو حتى أنها بمثابة البديل الآيديولوجي وليست بديلاً تنظيرياً، كما يشدد على هذه الرؤية أنصار ما يعرف بـ (الإتجاه السائد-Main Stream)، وأنه (أي التنظير الماركسي) لا يرتقي لمرتبة النظرية -كما سيأتي-.

ومن ناحية ثانية، فقد لاقى التنظير الماركسي رواجاً وازدهاراً في حقل الاقتصاد السياسي الدولي، بل ويسود اعتقاد بين بعض أوساط منظري هذا الحقل بأن كارل ماركس هو أول منظر للاقتصاد السياسي، وذلك من خلال سده للفجوة ما بين الاقتصاد والسياسة وكسره لشوكة الاقتصاد الكلاسيكي القائم على الفصل ما بين البنية الفوقية والبنية التحتية، ومن ثم جداله بأن البنية التحتية (علاقات الإنتاج) هي التي تُشكل البنية الفوقية (العلاقات السياسية) وليس العكس.

وكما تقدم فإن ماركس لم يتناول العلاقات الدولية بوضوح، ولاستعراض هذه النظرية ينبغي التطرق إلى هذه التيارات التي تشكل ما يمكن أن يُعتبر النظرية الماركسية بحسب تسلسلها الزمني، وعلى النحو التالي:

1- الماركسية التقليدية، إتجاه الإمبريالية-Classic Marxism, Imperialism Trend:

خلال الحقبة المبكرة من القرن العشرين، ومع ظهور بوادر الحرب العالمية الأولى، برز جيلٌ من المنظرين الماركسيين الذين تقترن أسمائهم بتيار الإمبريالية ومن أبرزهم جون هوبسون- John Hobson  وفلاديمير لينين-Vladimir Lenin، ويحاجج هؤلاء المفكرين بأن العمليات المتقدمة في التراكمية الرأسمالية كانت تدفع البلدان الرأسمالية الرئيسية نحو التوسعية الإستعمارية (الكولونيالية)، وتعد الماركسية التقليدية من بين أهم التيارات المبكرة في العلاقات الدولية في بداية القرن العشرين، والمفسرة لبعض الظواهر الدولية كالإمبريالية والصراع الدولي من الزاوية الاقتصادية، ويعتبر التيار الماركسي التقليدي بمثابة النواة التي انطلقت منها محاولات التنظير الماركسية اللاحقة، وإن لم ترتقِ الماركسية التقليدية لمستوى النظرية في العلاقات الدولية على غرار النظريات الأخرى كالواقعية والليبرالية، إلا أنها تعد منظوراً ثورياً من حيث دعوتها لتغيير الوضع الراهن (نموذج الدولة) والسعي لاستبداله بآخر (نموذج الشيوعية العالمية).

وتبرز هذه الأفكار في محاولات كل من هوبسون ولينين في دراساتهما للإمبريالية والصراع الدولي، وتركيزهما على مبدأي الأممية الشيوعية وحق الشعوب في تقرير مصيرها،وترتكز هذه الأفكار على كتابات ماركس وإنجلز كمرجعية فكرية هائلة للماركسيين الذين جاءوا من بعدهما وفي مقدمتهم: فلاديمير لينين كرجل دولة ومفكر في آن واحد، والاقتصادي البريطاني جون هوبسون كمفكر، وقد حاول هذان المفكران نقل مجال الاهتمام من البيئة الداخلية إلى البيئة الخارجية، واضفاء البعد الدولي على أفكار ماركس وإنجلز، ويتضح ذلك في دراستيهما لظاهرتي الإمبريالية كظاهرة مشتركة فيما بينهما، والصراع الدولي كظاهرة انفرد بها لينين، وسنتطرق لأفكارهما بشيء من التفصيل.

أ- جون هوبسون-Jhon Hobson  (1858-1940):

هو إقتصادي ومفكر إنجليزي له دور بارز في دراسة ظاهرة الإمبريالية في أوج هيمنتها على العلاقات الدولية، ويمكن القول -إلى حدٍ ما- أن معظم أسس النظرية الماركسية لتفسير الإمبريالية كان قد طرحها هوبسون (ومنه استمد لينين) ، حيث فسّر الإمبريالية بأنها نتيجة عدم التوافق في داخل النظام الرأسمالي، وعلى الرغم من أن ظاهرة الإمبريالية كممارسة أقدم منها كنظرية مدروسة، إلا أن هوبسون يعتبر أول من ساهم في تطوير الدراسة الماركسية لهذه الظاهرة.

وفي تفسيره للإمبريالية يركز هوبسون على الرأسمالية المالية، ويرى بأنها العامل الرئيسي الذي يؤدي إلى نشوب الحروب ما بين الدول، وحول أسبابها فإنه يرى بأن الحروب تحدث كنتيجة لحالة عدم التوازن أو التكافؤ بين معدلات الإنتاج ومعدلات الإستهلاك، حيث يصاحب فائض الإنتاج في الدول الصناعية تقلص كبير في الطلب على السلع، مما يدفع هذه الدول إلى البحث عن أسواق خارجية في مستعمراتها لتصريف فائض الإنتاج، وذلك للحيلولة دون حدوث أزمات إقتصادية في داخل الدول الصناعية.

ويتطلب في مثل هذا الوضع من المجتمعات الرأسمالية انتهاج سياسة توسعية يعتبرها الماركسيون مظهراً من مظاهر الإستعمار والإمبريالية، ويترتب عن هذا التوسع الخارجي اندلاع الحروب وحدوث الصراعات والنزاعات بين الدول الإستعمارية ومستعمراتها في حال رفض الأخيرة لذلك الفائض من الإنتاج، ويوضح هذه العملية الجدول التالي: 

 

التنظير الماركسي في العلاقات الدولية

 

وأيضاً قد يؤدي ذلك إلى حدوث الصراعات ومن ثم تطورها لحروب بين الدول الصناعية أنفسها حول الهيمنة على المستعمرات وثرواتها بسبب تناقض المصالح بين تلك الدول، ووفقاً لهذه الأفكار حول ظاهرة الإمبريالية يحاول هوبسون أن يوضح لنا بأن النظام الرأسمالي الإحتكاري هو المسبب الرئيسي لكل الأزمات والحروب والنزاعات التي تنشب في شتى أنحاء العالم ما بين القوى الإستعمارية ومستعمراتها وفقاً لقوانين الجدلية والمادية التاريخية، أو بين المستعمرين أنفسهم وفقاً لتناقض المصالح، وهذا التحليل يبين أن الأزمة الاقتصادية آنفة الذكر تقتصر فقط على النظام الرأسمالي دون غيره من الأنظمة الأخرى، وهي ذاتها الفكرة التي يؤكدها لينين في دراسته للإمبريالية وعلاقتها بالصراع الدولي.

ب- فلاديمير لينين-Vladimir Lenin (1870-1924):

استمد لينين لُب أفكاره حول الإمبريالية من أطروحات كل من جون هوبسون ورودلف هلفرونغ، وفي تعريفه لها يقول: "إن الإمبريالية هي الرأسمالية في مرحلة من التطور تكون فيها الرأسمالية المالية واحتكارات القوى المهيمنة ويصبح فيها تصدير رأس المال في غاية من الأهمية، وتقسيم العالم بين التروستات [جمعيات الرأسماليين]. وهي المرحلة التي يكون فيها تقسيم جميع أراضي العالم بين القوى الرأسمالية قد اكتمل".  

وبحسب التعريف السابق، يرى لينين أن الرأسمالية الإحتكارية مرادفة للإمبريالية، وأنها نتيجة لأربعة عوامل هي:

1- تركيز الإنتاج في إتحادات أو نقابات أو تروستات كأدوات احتكارية.

2- التنافس على المواد الأولية الخام واحتكارها.

3- تطور الأولجياركيات المصرفية التي تحتكر التمويل الصناعي.

4- تحول الإستعمار التقليدي إلى إستعمار جديد من خلال تقسيم العالم المُستعمَر إلى مناطق نفوذ.

ويرى لينين أن الإمبريالية تنتج عن الحاجة المُلحة في تصدير رأس المال إلى الأسواق الخارجية، وهو الأمر الذي يصاحبه توسع في نفوذ النظام الرأسمالي وسيطرته عالمياً.

وأما في حالة حدوث حرب ما بين النظامين الرأسمالي والإشتراكي، فحينها يُعزى تفسيرها لعدوانية الرأسمالية ومن ثم تكون نتيجتها إنتصاراً شاملاً للإشتراكية، وبحسب زوال مخاطر التطويق الرأسمالي وتعميم الإشتراكية في العالم تزول إمكانيات وإحتماليات الحروب، ويقول جوزيف ستالين-Joseph Stalin  في هذا السياق: "من أجل تدمير حتمية الحروب، لا بد من تدمير الإمبريالية".

وبالعودة لتصورات لينين حول الإمبريالية، نجد بأنه يعتبر الإمبريالية خياراً حتمياً للدول الرأسمالية وليست مجرد "خياراً مفضلاً" كما كان يرى كارل كاوتسكي-Karl Kautsky، وبالتالي لا يمكن تجنب حقيقة أن تطور الرأسمالية الإحتكارية سيفضي بها إلى هذا المآل أي الصراع -بحسب تصوره-.

وبعد استعراض أطروحات كل من هوبسون ولينين نستنتج أنهما يتقاسمان العديد من الأفكار أهمها:

1- أن الرأسمالية الاحتكارية تمثل المسبب الرئيسي لاندلاع الصراعات والحروب.

2- ربط الإستثمارات الخارجية للقوى الإستعمارية بالمستعمرات.

3- أن هناك علاقة تبعية وإستغلال تمارسها الدول الرأسمالية الاحتكارية على مستعمراتها المختلفة، وهي علاقات متجذرة منذ ظهور النظام الرأسمالي العالمي.

 وعلى الرغم من أن تيار الإمبريالية يقدم تفسيرات حديثة لظاهرتي الإمبريالية والصراع الدولي في حقل التنظير للعلاقات الدولية، وأنه كذلك أحدث نقلة نوعية في الفكر الماركسي، حيث تتضح معالم هذه النقلة في أنها أولى المحاولات للتطوير على أفكار كارل ماركس وإضفاء البعد الدولي عليها ودراسة الظواهر الدولية ومحاولة تفسيرها، إلا أن هذا التيار تعرض للإنتقادات حيث وُجهت سهام النقد له على النحو التالي: 

1- تركيز إهتمام الماركسيين في البيئة الداخلية للمجتمع الواحد، اعتقاداً منهم بأن التحولات الكبرى تبدأ من تناقضات المجتمع الواحد.

2- عدم فصلهم بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية للدولة، وبالتالي تجاهلهم للبيئة الخارجية للمجتمع، وفي ذلك يقول فلاديمير لينيين: "ليس هناك فكرة أخطر وأشد ضرراً من الفكرة المتمثلة في فصل السياسة الداخلية عن السياسة الخارجية".

3- يهتم التنظير في العلاقات الدولية بجوانب أخرى إضافة للجانب الاقتصادي، الذي يُعد محور تفسير الماركسيين للظواهر المختلفة. 

4- عدم إلمام الماركسيين بالظواهر الدولية واقتصارهم على ظاهرتي الإمبريالية والصراع الطبقي، وجعلهما كمتغيرين أساسيين في تحليلهم من خلال اعتبارهم الطبقة كفاعل (Actor) والإمبريالية كقوة محفزة (Motive).

5- رغم أن العلاقات الدولية هي علاقات بين الدول، فإن الماركسيين التقليديين ينكرون دور الدولة، بل ويذهبون إلى حد دعوتهم بضرورة زوال الدولة معتبرين أن الصراع ليس صراعاً دولياً (أي بين الدول)، وإنما صراع طبقي بين الطبقة البرجوازية وطبقة البروليتاريا وهو صراع آيديولوجي- إقتصادي.

6- الإنتقادات التي طالت "حتمية" لينين حول ربطه ما بين الرأسمالية والإمبريالية، حيث يفترض أن الدولة الرأسمالية ينتج عنها حتماً الممارسات الإمبريالية، ولكن الواقع يُبين أن الدول الرأسمالية لم تكن كلها إمبريالية، كما أن الدول الإمبريالية لم تكن كلها رأسمالية بالضرورة، وهو ما شكك في صدق هذا الافتراض وما ترتب عليه من تفسيرات وتحليلات.  

وكما تمت الإشارة للدور البارز الذي أداه تيار الإمبريالية على الفكر الماركسي بشكل خاص حيث استقى العديد من المفكرين والاقتصاديين من تيار اللإمبريالية وطوروا عليه أفكاراً جديدة وتفسيرات مختلفة، تمثلت بتيار رفض التبعية-Dependency Theory والذي يندرج تحت ما سيعرف لاحقاً بـ التنظير النيو-ماركسي.

 

2- النظرية الماركسية الجديدة، نظرية التبعية-Neo-Marxism Theory, Dependency Theory:

تعتبر من أهم اتجاهات التنظير الماركسي في حقل العلاقات الدولية، وعلى خلاف الاتجاهات الماركسية الأخرى فإن مجالها خاص ومحدد جداً، حيث ينحصر في تفسير أسباب تخلف دول العالم الثالث، ويحاول أنصار هذه النظرية أن يقدموا البديل المفاهيمي والآيديولوجي لمدرسة التحديث الليبرالية- Modernization، وتوصف بالماركسية الجديدة لأنها تنقل التركيز من علاقات الإنتاج إلى علاقات التبادل أو التجارة في السوق العالمي. 

وقد ظهرت نواة أفكار نظرية التبعية كتعبير عن تلك الظروف التي كانت تعيشها دول العالم الثالث، إنطلاقاً من فكرة فحواها: أن النظام الرأسمالي العالمي مقسم إلى قسمين هما: الدول المتقدمة (دول المركز) والدول النامية (دول المحيط)، وبذلك يختزل رواد هذه النظرية العلاقات الدولية في كونها علاقات سيطرة وتبعية بين أطراف غير متكافئة على جميع المستويات.

وفي خِضم الجدل في العلاقات الدولية حول مسألة التفاوت في مستويات التنمية والتطور ما بين الدول، برزت مجموعة من الكتابات وبشكل رئيسي في أمريكا اللاتينية وبعض دول العالم الثالث التي تُفسر فيها ظاهرة التفاوت، وتُرجع أسباب التباين إلى التبعية التي تحكم العلاقة ما بين دول الشمال المتقدمة ودول الجنوب النامية، ويرى معظم المفكرين أن البدايات المبكرة لهذه النظرية انبثقت عن أعمال اللجنة الاقتصادية حول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي (ECLAC) خلال حقبة الستينيات من القرن العشرين، ومؤتمر التجارة والتنمية (CTAD) المنبثقين عن منظمة الأمم المتحدة، حيث كان يحاول كل من هاذين الإتجاهين أن يجيبا على تساؤلات هامة ومحاولة إيجاد تفسيرات مقنعة لبعض الظواهر في العلاقات الدولية، وخاصة مسألة تخلف الدول في العالم الثالث.

وينطلق رواد هذا المنظور من فرضية مفادها: (أن النظام الرأسمالي كان خاضعاً لقانون الطبيعة وتقليص تدخل الدولة في الاقتصاد لأضيق نطاق إنطلاقاً من مبدأ: "دع يعمل، دعه يمر-Laissez Faire, Laissez Passer"، فإن حل الأزمات التي تحدث في النظام الرأسمالي كنتيجة لتراكم رأس المال وفائض الإنتاج يتم بصورة آلية، وذلك عن طريق التوسع على حساب الدول المتخلفة مع ظروف وميكانيزمات النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي).

وتمتد عملية التكيف هذه لتشمل كل دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية كتوابع للدول المركز في النظام العالمي، وخاصة بعد أن حصلت العديد من الدول المتخلفة على إستقلالها في الخمسينيات والستينيات وما ترتب عن ذلك من تبعات.

ويعرف ثيوتونيو دوس سانتوس- Theotônio Dos Santos أحد أبرز منظري هذا التيار "التبعية" كحالة بقوله:  "نعني بالتبعية الوضع الذي يتكيف فيه إقتصاد بلدان معينة بتطور وتوسع إقتصاد آخر يخضع له إقتصاد تلك البلدان وتتخذ علاقة التبعية المتبادلة بين إقتصادين أو أكثر، وبين هذه الاقتصادات والتجارة الدولية يحدث شكل التبعية عندما لا تتمكن بعض البلدان من فعل ذلك إلا كانعكاس لهذا التوسع الذي قد يكون له أثر إيجابي أو سلبي على تنميتها مباشرة"  

ويتضح من هذا التعريف أن التبعية كحالة هي نتيجة لعوامل خارجية أكثر منها لعوامل داخلية، وأن علاقات التبعية ناجمة عن العلاقات غير المتكافئة بين الدول التابعة ودول المركز -بحسب تصوراتهم-.


أ- التبعية كحالة ممارسة:

تعتبر التبعية كحالة ذات جذور تاريخية بعيدة وتمتد إلى البدايات الأولى لتشكلها بالتوازي مع ظهور ونشأة النظام الرأسمالي العالمي والهيمنة الإمبريالية منذ نهاية القرن السادس عشر الميلادي، ولكنها تطورت ونشأت كعلاقة تابع ومتبوع بين الدول الرأسمالية والدول المتخلفة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد أدى التطور الرأسمالي العالمي وزيادة التراكمات الرأسمالية في الدول الغربية (التي شهدت الثورة الصناعية) إلى تراكم رأس المال فيها.

وتبرز أهمية مدرسة التبعية في أنها تقدم دراسة للعلاقة ما بين دول الشمال (الدول الصناعية المتقدمة) ودول الجنوب (الدول الفقيرة النامية)، وذلك من خلال تسليطها للضوء على علاقة الإستغلال التي تمارسها الدول الغنية في هذه العلاقة والخلل البنيوي في طبيعة النظام الرأسمالي. 

ب- التبعية كإطار فكري:

ترتبط التبعية كمقاربة نظرية بأعمال المدرسة البنيوية في الاقتصاد السياسي الدولي التابعة لعالم الاقتصاد اللاتيني راؤول بريبيش- Raúl  Prebisch  والذي برز في ثلاثينيات القرن العشرين، ومن ثم تم التطوير على أفكار بريبيش في فترة الستينيات والسبعينيات من قِبل منظرين يرتبط جُلهم باللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية (ECLAC) المنبثقة عن منظمة الأمم المتحدة وتعمل تحت إشرافها، ومن أبرز هؤلاء المنظرين: من أمريكا اللاتينية؛ فرناندو كاردوسو- Fernando Cardoso ، وثيوتونيو دوس سانتوس- Theotônio Dos Santos، ومن أفريقيا؛ سمير أمين، ومن أمريكا الشمالية؛ أندريه غاندر فرانك-Andre Gunder Frank.

وقد صاحب ظهور نظرية التبعية ظروف وواقع دولي ساهم في ظهور مثل هذه الدراسات، ويعدد بعض الأكاديميين أن أبرز تلك الظروف هي:

1- تراجع أفكار مدرسة التحديث-Modernization الليبرالية، حيث جاءت مساهمة أتباع نظرية التبعية كرد عنيف مقابل لطرح نظرية التحديث فيما يخص طرح هذه النظرية.

2- جاءت نظرية التبعية تجسيداً لوحدة العلوم الإجتماعية من حيث دراساتها للتنمية والتخلف دراسة سياسية وإقتصادية في نفس الوقت، وبالتالي تشجيعها وتدعيمها لتعاون الحقول المعرفية وتكاملها. 

3- تراجع المد الإستعماري التقليدي المباشر لصالح المد الإستعماري الجديد، وهو الإنتقال الذي ينجم عنه لجوء النظام الرأسمالي العالمي إلى استعمال أساليب وآليات جديدة تتماشى مع طبيعة الإستعمار الجديد للحيلولة دون خروج الدول التابعة من تخلفها، ومن أبرز هذه الأساليب: (التبادل اللامتكافئ، والمؤسسات النقدية العالمية، والشركات متعددة الجنسيات، وتصدير رؤوس الأموال) ، وهذا الوضع قد حفز مفكري ومنظري العالم الثالث إلى التنظير لهذه الظواهر ضمن قالب نظري ممنهج يطلق عليه التبعية -بحسب تصوراتهم وافتراضاتهم-.

هذا من حيث التاريخ والنشأة والظروف المصاحبة لها، أما من حيث المضمون الفكري ومرجعيته، فيلاحظ القارئ بصمات الفكر الماركسي على منظور التبعية، حيث يعتبر هذا المنظور كإمتداد وحلقة في سلسلة تطور التنظير الماركسي، وتُلاحظ المرجعية الفكرية الماركسية على أطروحات التبعية سواءً من خلال إسهامات كارل ماركس في تحليله الطبقي لعلاقات الإستغلال ما بين الطبقة البرجوازية الغنية وطبقة البروليتاريا الفقيرة وهي العلاقات المتجذرة في النظام الرأسمالي العالمي -بحسب تصورات رواد هذا التيار-، وكذلك تُلاحظ مرجعية تيار الإمبريالية -كما تقدم- وأثره على منظور التبعية سواءً أطروحات هوبسون حول الإمبريالية وتفسيره لآلية عمل النظام الرأسمالي، أو إسهامات لينين حول الإمبريالية والصراع الدولي وأسبابه المباشرة وغير المباشرة حيث يختصرها في التنافس المستمر بين المستعمرين حول الأسواق الخارجية، أو بين الدول الإستعمارية والمُستعمرات في حال قاومت المد الإستعماري.

إذن فالمرجعية الفكرية لمنظور التبعية هي الأفكار الماركسية المجردة، ومن ثم الماركسية التقليدية في العلاقات الدولية التي طور عليها منظرو التبعية من حيث الطبيعة الشمولية للرأسمالية والروح الإستغلالية الملازمة لها في خدمة البرجوازية -بحسب تصوارتهم-. ويقول فيليب بربارا في ذلك: "لقد نمى في الحقيقة في أعوام الخمسينيات تيار من الفكر الماركسي الجديد ينكر حقيقة زوال الإستعمار، ويسعى إلى تأكيد واستمرار الإمبريالية في العلاقات الدولية المعاصرة، وهذه المقاربة تشدد بوجه خاص على علاقة تبعية العالم الثالث للبلدان الرأسمالية الصناعية، وتؤكد وجود رابط بين الإمبريالية والتخلف“.

وأما ستيفن والت فيرى أن منظري التبعية قد انطلقوا من دراسة العلاقات ما بين القوى الرأسمالية الأكثر تطوراً ونظرائها من الدول الأقل نمواً أو الدول المتخلفة، حيث يجادل منظرو التبعية بأن الدول الأولى أصبحت أكثر غِنى بفضل استغلالها ونهبها لثروات البلدان التي استعمرتها.


- الإفتراضات الرئيسية لمنظور التبعية:

تنطلق التفسيرات النيوماركسية من مرتكزات وفرضيات يسعون من خلالها لتفسير أسباب التخلف وغياب التنمية في دول العالم الثالث، وتحليل العلاقة غير المتكافئة بين دول المركز ودول المحيط، ويمكن إجمال الإفتراضات الرئيسية لهذه النظرية على النحو التالي:

1-  ضرورة الفهم اليقيني للصيرورة العالمية الشاملة التي تتفاعل في سياقها كل الوحدات السياسية للمجتمع الدولي في إطار العلاقات ما بين الدول التابعة ودول المركز. ويعني ذلك إنطلاقهم من نقطة النظام الدولي في تحليل وتفسير سلوك الفاعلين الدوليين (كأفراد، جماعات، دول أو منظمات)، ويتشابهون في ذلك مع الواقعيين الجدد. 

2- أهمية التحليل التاريخي لإستيعاب النظام الرأسمالي العالمي بصفة خاصة، والنظام الدولي بصفة عامة. والقصد من هذا الإفتراض أن العامل التاريخي يتجلى في النظام الرأسمالي العالمي في مختلف مراحل تطوره، والذي هو في واقع الحال يعمل لصالح بعض الأفراد أو الدول أو المجتمعات أو المؤسسات المالية والدولية على حساب الدول التابعة المُستغلة، وترتكز هذه الفرضية على التحليل الماركسي التقليدي. 

3- إنتهاج النظام الرأسمالي العالمي لآليات هيمنة، وهي بمثابة المعوقات للتنمية الحقيقية في الدول التابعة. يتضمن هذا الإفتراض -بحسب رواد النظرية- مختلف الوسائل والأساليب التي يطبقها النظام الرأسمالي العالمي على الدول التابعة، وهي وسائل تستعملها الدول المتقدمة لتحقق تنميتها وتطورها على حساب تخلف الدول النامية، مما يوسع الهوّة بين أطراف هذه العلاقة.

4- أهمية العامل الاقتصادي في تفسير وتحليل تطور النظام الرأسمالي العالمي وتخلف الدول التابعة. يتضمن هذا الإفتراض المتغير الرئيسي الذي تُفسر من خلاله نظرية التبعية العلاقات ما بين دول المركز (المتقدمة) ودول المحيط (النامية)، الا وهو المتغير الاقتصادي، فمن خلال دراسة هذه العلاقات يركز منظرو التبعية على التخلف الاقتصادي والتبعية الاقتصادية.

وهنا أيضاً تستمد النيو-ماركسية من الماركسية التقليدية تركيزها على المتغير الاقتصادي، لذلك يوجد شريحة من المنظرين تُصنف الماركسية بمختلف تيارتها ضمن التصور الاقتصادي للعلاقات الدولية والاقتصاد السياسي الدولي -كما تقدم-.

وأما في التفسير ظاهرة التخلف التي ميزت معظم دول العالم الثالث، فيفترض منظرو التبعية أن التخلف لم يكن حالة أصلية وُجدت عليها إقتصاديات دول العالم الثالث قبل خضوعها للنفوذ الأوروبي، بل إن التخلف نشأ وتطور في لحظة تاريخية واحدة مع نشأة وتطور التقدم في المراكز الرأسمالية المتقدمة، أي أنهم يرون في التخلف (لدول المحيط) والتقدم (لدول المركز) وجهان لعملية تاريخة واحدة بدأت مع ولادة النظام العالمي للرأسمالية منذ القرن السادس عشر.

ويُلاحظ عزو منظري التبعية التخلف في الدول العالم الثالث لأسباب خارجية بحتة وعدم التطرق لأي أسباب داخلية كما يفترض منظري مدرسة التحديث الليبرالية، حيث أن نشأة ظاهرة التخلف تزامنت مع ظاهرة تقدم الدول الغربية الرأسمالية وعندما تطورت الدول الغربية إقتصادياً بفضل ما كسبته من إستعمارها وإستغلالها لخيرات الدول المستعمرة، ومنذ استنزاف خيرات تلك الدول التي مورس عليها الإستعمار بقيت تلك الدول متخلفة، إذن فالتخلف الاقتصادي (في دول المحيط) والتقدم الاقتصادي (في دول المركز) وجهين لعملة واحدة كما يفترض ذلك منظري التبعية.


- التيارات الفكرية المنبثقة عن نظرية التبعية:

مما يميز نظرية التبعية عن النظريات الغربية للعلاقات الدولية أنها أول طرح نظرية انبثق عن منظري العالم الثالث، ويميزها كذلك تعدد التيارات التي تنتمي لها، وعلى النحو التالي:

1- تيار التخلف-Underdevelopment Trend: يحاول هذا التيار الكشف عن العوامل الداخلية والخارجية لظاهرة التخلف، وفي محاولة مفكريه وأبرزهم هو أندريه غاندر فرانكAndrew Gunder Frank- تحليل هذه العوامل اصطدموا بصعوبة كبيرة في تحديد مفهوم التخلف، حيث بقي المفهوم السائد ولغاية الستينيات من القرن العشرين ينحصر في "ضعف البُنى الاقتصادية"، ويرى فرانك أن التخلف ينتج عن عملية النمو الرأسمالي العالمي المترتبة عن إندماج إقتصاديات التوابع في الاقتصاد الرأسمالي العالمي والذي يعمل على زيادة التخلف في تلك الدول، كما أن التخلف هو انعكاس طبيعي لهشاشة البُنى الاقتصادية، والسياسية، والإجتماعية، والثقافية للدول التابعة. ويحاول فرانك -بعد دراسته الميدانية للواقع المتخلف لدول أمريكا اللاتينية- أن يعزو هشاشة البُنى الداخلية للدول للعوامل الخارجية والداخلية على حدٍ سواء، وليس فقط للعوامل الداخلية -كما تروج له مدرسة التحديث الليبرالية سالفة الذكر-، وصورة ذلك بحسب تفسيرات فرانك أن التخلف ينتج عن العلاقات غير المتكافئة ما بين دول المركز ودول المحيط، ناهيك عن إندماج إقتصاديات الدول التابعة في النظام الرأسمالي العالمي مما ينمي دول المركز وينمي تخلف دول المحيط، وخلاصة هذا الطرح أن ظاهرتي التنمية (في دول المركز) والتخلف (في دول المحيط) صورتان لواقع واحد سببه النظام الرأسمالي العالمي. 

2- تيار الإمبريالية - Imperialism Trend: يُنظر لهذا التيار على أنه مُستلهم من تيار الإمبريالية في الماركسية الكلاسيكية (هوبسون-لينين) ولكنه لا يقتصر عليه، ويتميز عن الطرح الكلاسيكي في أن القديم يختزل الإمبريالية في صورة واحدة وهي الإمبريالية الاقتصادية، فيما يرى يوهان غالتونغ-Johan Galtung  أن الإمبريالية تمتد لتشمل كافة ميادين الحياة المختلفة، وهو ما يؤكد عليه  في أحد أعماله:  (نظرية بنيوية للإمبريالية-A Structural Theory of Imperialism ) وفيه يشدد على أهمية البحث في مجموعة أكبر من العوامل عند تحليل الإمبريالية، ويرى أيضاً أن كلاً من لينين وهوبسون قد جانبا الصواب في حَصر أبحاثهما على التحليل الاقتصادي، كما يعتقد أيضاً أنه ينبغي دراسة عوامل أخرى مسيطرة كالعامل السياسي والعسكري والثقافي وعامل الإتصالات، وفي سبيل توضيح ذلك يُعبر عن أشكال الإمبريالية بالجدول التالي:

 

- أشكال الإمبريالية: - دول المركز توفر: - دول المحيط توفر:
- الإمبريالية الاقتصادية عملية الإنتاج ووسائله المواد الأولية والأسواق
- الإمبريالية السياسية القرارات، النماذج الإخضاع والتقليد
- الإمبريالية العسكرية الحماية، وسائل التدمير الإنضباط والإنصياع
- الإمبريالية الإتصالية الأخبار، وسائل الإتصال/النقل أحداث، مسافرين، بضائع
- الإمبريالية الثقافية التعليم، وسائل الإستقلالية الثقافية تلقين، تبعية ثقافية (غزو ثقافي) 

 

يُبين الجدول السابق -بحسب تصور غالتونغ- أن أشكال الهيمنة التي تمارسها دول المركز على دول المحيط تشمل كافة مجالات الحياة، ويوضح أيضاً ضخامة الهوّة ما بين طرفي هذه العلاقة، حيث تُكرس العلاقة اللامتكافئة ما بين دول المركز والمحيط من تبعية الأخيرة مما يجعل من الإمبريالية والتبعية وجهان لعملة واحدة.

وفي تعريف غالتونغ للإمبريالية يقول: "الإمبريالية هي الطريقة التي بواسطتها تهيمن دولة من المركز على دولة (أو أكثر) من المحيط من أجل خلق حالة تميزها المصالح المتناقضة بينهما والإبقاء عليها".  ويشدد غالتونغ أيضاً على أهمية بحث العلاقات والمصالح المتطابقة بين النخب في دول المحيط والنخب من دول المركز. وتشكل فرضية التبعية بحسب تصور الإمبريالية السابق تحدياً كبيراً للإفتراض الأساسي السائد في حقل العلاقات الدولية والذي تتبناه معظم نظريات العلاقات الدولية الا وهو: وجود حد أدنى -على الأقل- من الإستقلالية ومرونة الحركة بين كل الوحدات السياسية كفواعل في الساحة الدولية، حيث يرى منظرو الإمبريالية من الماركسيين الجدد أن مفهوم العلاقات الإمبريالية بين دولتين أو أكثر ينحصر في عدم التكافؤ في الفرص والإمكانيات بين دول المركز (المتقدمة) ودول المحيط (المتخلفة)، حيث أن هذه الأخيرة مقيدة الحركة والتصرف إلا في حدود ما تمليه عليها دولة المركز التي تهيمن عليها.

ويعتقد بعض المفكرين مثل بيتر إيفانس أن تيار الإمبريالية (النيوماركسي) قد يرتقِ ليُعتبر نظرية للإمبريالية وليس نظرية للتبعية، ويعلل تصوره هذا بأن مفهوم الإمبريالية قد تطور بشكل كبير ممنذ ظهور أول إستعمال لمفهوم الإستعمار الجديد في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، فهي سياسة توسعية موجهة أساساً نحو القضاء على أية مبادرة بين الدول المستقلة حديثاً من أجل إبقائها في تبعيتها الاقتصادية والأمنية للنظام الرأسمالي العالمي، وبالتالي يمكن القول بأن أهم إطار نظري لسياسة الإستعمار الجديد يتمثل في تيار الإمبريالية النيو-ماركسي.

3- تيار المركز - المحيط (Center-Periphery Trend): 

 يلخص هذا التيار العلاقات الدولية على أنها علاقات سيطرة وتبعية في إطار ثنائية المركز-المحيط الملازمة للنظام الرأسمالي العالمي، ومن أبرز منظريه مفكرين عرب من أمثال: سمير أمين وسعد زهران، ويفترض رواد هذا التيار وجود طرفان تنمويان مختلفان جذرياً  كنتيجة للتبادل غير المتكافئ، وأن الطرف الأقوى (المركز) يحافظ على بقاء الوضع الراهن ويمنع محاولات التغيير، ويفسر ذلك أن دول المركز تمتلك بينة إقتصادية قوية تمكنها من فرض هيمنتها على دول المحيط التي تتميز بهشاشة وتشوه البنية الاقتصادية فيها، أي أن دول المركز التي تمتلك التكنولوجيا ورؤوس الأموال ووسائل التطور، ودول المحيط التي تفتقر إلى مثل هذه الوسائل ولا تمتلك سوى المواد الخام التي تصدرها لدول المركز كمواد أولية ومن ثم تستوردها بعد تصنيعها بأثمان باهظة، هذا هو التصور الأساسي الذي يتبناه ويروّج له أنصار هذا التيار. 

- وسائل وآليات تكريس التبعية:

يفترض الماركسيون الجدد أن دول المركز المستفيدة من الوضع القائم -في العلاقة التي يصفونها بالإستغلالية- عند سعيها لترسيخ هذا الوضع تلجأ إلى انتهاج واستعمال وسائل متنوعة لضمان استمرايتها، ومن هذه النظرة يحاول أتباع الماركسية الجديدة بتيارتها الإستدلال على إفتراضهم (بأن النظام الرأسمالي العالمي ينتهج ميكانيزمات للهيمنة تُشكل معوّقات للتنمية في الدول التابعة)، ويعددون هذه الوسائل على النحو التالي:

أ- التبادل اللامتكافئ-Unequal Exchange :  حيث يرون أن علاقة التبعية (دول المحيط لدول المركز) تقوم على عملية التكييف-Adaptation للبُنى المختلفة (الإجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وغيرها) داخل دول المحيط للتماهي مع النظام الرأسمالي العالمي الإحتكاري، وهو ما يؤدي للتبادل اللامتكافئ، وصورة ذلك -بحسبهم-: أن دول المحيط تقتصر على صادرات محددة في عملية التجارة الخارجية، وغالباً ما تكون هذه الصادرات هي المواد الأولية الخام (وأحياناً بعض المحاصيل الزراعية) وتقوم بتصديرها بأسعار بخسة، وفي المقابل تقوم دول المركز بتحويل هذه المواد الأولية إلى مصنوعات ومن ثم تُعيد مبادلتها مع دول المحيط بأسعار باهظة جداً.  (يقول في ذلك أحد المسؤوليين السياسيين في إحدى الدول اللاتينية: أن بلاده كانت تصدر عشرين كيساً من البن لتستورد في مقابلها سيارة واحدة من الدول الصناعية، ولكن بعد فترة أصبحت بلاده تصدر مئة كيس من البن وبالكاد تستطيع شراء ذات السيارة).

وبحسب الماركسيين الجدد يعتبر التبادل اللامتكافئ الأداة المفضلة لسياسة الإستغلال التي تُمارس على دول المحيط، والسبب أن هذا النوع من التبادل يساعد في زيادة إتساع الهوّة ما بين طرفي هذه العلاقة، حيث يزيد هذا الوضع من تخلف دول المحيط وعلى العكس ينمي دول المركز، ومع بقاء هذه المعادلة تستمر الهيمنة ويترسخ النظام الرأسمالي العالمي.

   ب- تصدير رؤوس الأموال-Exportation of Capitals:  تعتبر هذه الوسيلة من آثار التبادل اللامتكافئ، فحيث أن دول المحيط تعاني من ندرة في رؤوس الأموال، ولمواجهة هذه المشكلة تقوم بإستيراد رؤوس الأموال من دول المركز، وبعد ذلك تقوم دول المركز بتصدير رؤوس الأموال ليتم توظيفها في القطاعات الإنتاجية الأساسية والتي تخدم إنتاج المواد الأولية اللازمة للقطاع الصناعي في دول المركز، ومن ثم الحفاظ على البنية الاقتصادية ذات الإنتاج الأحادي في دول المحيط، وضمان تزويد دول المركز بما تحتاجه من المواد الأولية.

وتحتل الولايات المتحدة الأمريكية الصدارة في عملية تصدير رؤوس الأموال، ويشير سمير أمين إلى أن نصيب الولايات المتحدة الأمريكية ارتفع من نسبة (6.3%) سنة 1914 إلى (51.1%) سنة 1960. وفي الواقع أن الإستثمار المحقق هو من مداخيل دول المحيط وليس من رأس المال الجديد من دول المركز كما قد يبدو للوهلة الأولى، ذلك أن المستثمرين الأجانب يلجأون إلى بنوك دول المحيط، ويحولون الأرباح خارج تلك الدول، وقد توصل أمين أيضاً إلى نتيجة مفادها أن دول المركز ليست هي من تصدر رؤوس الأموال وإنما العكس، وأن الإستثمار في هذه الصورة نقمة وليس نعمة على دول المحيط لأنه يبقيها في حالة من التخلف المستمر ويحول دون تحقيق أي فرصة حقيقية لقيام مشاريع التنمية الداخلية فيها، ومن ثم تلجأ دول المحيط لمتنفس آخر لمحاولة إيقاف هذه المعاناة وهي: سياسة الإقتراض من المؤسسات الدولية.

ج- المؤسسات النقدية الدولية-International Financial Institutions: يرى الماركسيون الجدد أن هذه المؤسسات ذات المنشأ الرأسمالي قد أوجدت لترسيخ النظام الرأسمالي العالمي، وأنها تستخدم لممارسة نمو البنى الرأسمالية وتقويتها وللحفاظ على الوضع القائم في دول المحيط أي بقائها متخلفة، ناهيك عن التدخل المستمر في الشؤون الاقتصادية في مختلف أنحاء دول المحيط. حيث تظهر ملامح هذا التدخل في الشروط التي تفرضها هذه المؤسسات (وأهمها صندوق النقد الدولي-IMF ، والبنك الدولي-IB) مقابل حصول الدول النامية على القروض ومن أهم هذه الشروط:

1- قبول نهج مالي يشجع الإبقاء على الوضع القائم. 

2- إتباع سياسة إقتصاد السوق.

3- تخفيض قيمة العملة الوطنية.

4- تشجيع القطاع الخاص والتركيز على خصخصة القطاع العام.

وهكذا تكون المساعدات المالية المقدمة من طرف صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي قد زادت من تفاقم سوء الوضع الاقتصادي والإجتماعي لدول المحيط على ناحيتين، الأولى إقتصادية بتضخم المديونية في تلك الدول وخاصة عند إعادة جدولة القروض وما يترتب عليها من زيادة الفوائد وانخفاض قيمة العملة الوطنية، والثانية إجتماعية عبر إنتشار البطالة ومعدلات الجريمة وما يترتب عليها.

د- الشركات متعددة الجنسيات-Multinational Corporations: يرى المنظور النيوماركسي أن الشركات متعددة الجنسيات تؤدي دوراً فعالاً وهاماً في إنتشار وترسيخ الرأسمالية في كافة أنحاء العالم، حيث أنها تشدد على بنية التفاوت والتبعية التي تميز النظام الرأسمالي العالمي، كما أنها تزعزع الصناعات الناشئة في العديد من دول العالم الثالث، وفي سبيل تكريسها لسياسة التغلغل في أسواق العالم الثالث (المحيط) تقوم بتوظيف أموالها في المجالات التي تلبي مصالحها فقط.

وتشير التقديرات الحديثة أن عدد الشركات متعددة الجنسيات يفوق (650) ألف شركة ويقترب من (850) ألف شركة في شتى أنحاء العالم، وبرؤوس أموال تفوق الناتج المحلي الإجمالي (GDP) للعديد من الدول، وتعداد موظفين يفوق عدد سكان بعض الدول أيضاً، وتنتهج  هذه الشركات بحسب التصور النيو-ماركسي- سياسة التغلغل في صميم البنى الداخلية لدول العالم الثالث  وترسخ من النظام الرأسمالي العالمي، مما يشجع الدول النامية على التكيف مع النمط الإستهلاكي الرأسمالي، ومن ثم مواصلة الهيمنة الرأسمالية على دول المحيط.

وغالباً ما تكون شروط الإستثمار التي تفرضها هذه الشركات في الدول النامية مجحفة بحق تلك الدول، وبما يحقق أرباحاً ضخمة للشركات متعددة الجنسيات، وهذا ما يهدد الإستقلال الاقتصادي للدول النامية، ويستنزف مواردها الوطنية ويضعف إمكانيات التنمية الذاتية فيها، إضافة إلى تراكم الديون على هذه الدول وعندها تسعى إلى تجاوز هذا المأزق بزيادة إنتاج وتصدير المواد الخام التي تعتمد عليها للحصول على النقد الأجنبي، وهو ما يسرّع بتدهور أسعار هذه الصادرات ويُنعش إقتصاديات الدول الصناعية المستوردة لها.

هـ- المعونة - Assistance:  يرى المنظور النيو-ماركسي أن النظام الرأسمالي العالمي يلجأ إلى وسيلة المعونة لإخفاء إستغلاله البشع لدول المحيط، ويرون أن هذه الوسيلة تسعى إلى تحقيق عدة أهداف في جملتها، وأهمها:

- أن هذه المساعادات تكون مشروطة وليست بالمجان كما يُعتقد أحياناً، وعادةً ما تكون الشروط ترتبط بمزيد من التبعية للدول المانحة.

- حماية دول العالم الثالث من الإفلاس التام، والذي إن حدث سيحول دون مواصلة عملية الإستغلال من قِبل دول المركز.

ويشبه المفكر الجزائري المهدي المنجرة المساعدات الخارجية بمرض السيدا (الإيدز) بعبارته: (Aids is AIDS)، حيث يحطم هذا المرض المناعة البشرية وقدرة الجسد في الدفاع عن نفسه بنفسه، وكذلك هي المعونات (بنظره) للبلدان النامية، فهناك علاقة مريبة ما بين المساعدات والمجاعات في البلدان النامية، فكلما زاد حجم المساعدات كلما أصبحت الدولة عاجزة وتابعة أكثر فأكثر.

ويستشهد بعض المفكرين بمقولة الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران-François Mitterrand بعد توليه لمنصب الرئاسة، حيث يقول: "إن كل فرانك تقدمه فرنسا في شكل مساعدة للبلدان النامية، تحصل مقابله على خمسة فرانكات في شكل مبادلات".      

- الحل للخروج من حالة التخلف والتبعية: 

يقدم منظري التبعية بتيارتها تصوراً لما يفترضون أنه الحل للتخلص من التبعية والتخلف في دول المحيط (الجنوب النامية) وذلك من خلال فك الإرتباط ما بين الاقتصاد الرأسمالي العالمي والاقتصاد المحلي لتلك الدول، وصورة ذلك -بحسبهم- أن يتم تغيير النظم السياسية القائمة بنظم أخرى تعمل على تحقيق التنمية الاقتصادية والإجتماعية، وأن السبيل لذلك هو أن تتبنى النظم البديلة النموذج الإشتراكي عِوضاً عن الرأسمالي.

- الإنتقادات الموجهة لنظرية التبعية:

لقد تعرضت نظرية التبعية للإنتقادات المتنوعة من مختلف أنصار النظريات الأخرى، وأبرز هذه الإنتقادات:

1- من وجهة نظر منهجية هناك خطأ ما في أية نظرية تستخدم متغيراً مستقلاً (Independent Variable) وحيداً لتفسير نتائج يستبعد بعضها بعضاً، حيث استخدم منظرو التبعية متغير (الاقتصاد الرأسمالي العالمي) لتفسير ثلاثة أنماط من المظاهر المتمايزة تماماً فيما بينها والسائدة في دول العالم الثالث وهي: (التخلف، التهميش، التنمية التابعة)، فقد تعمقت نظرية التبعية بالفرضيات الخاصة، والحجج المكررة بلا فائدة، والتي تهدف إلى تفسير ظواهر شديدة الإختلاف.

2-  عدم وجود الحجج الكافية التي تُدعم إفتراضات منظري التابعة في وجود علاقة ممنهجة ووظيفية بين الاقتصاد الرأسمالي العالمي والتخلف، حيث أن جوهر حجج منظري التبعية هو أن السوق العالمية أو الاقتصاد الرأسمالي العالمي يعمل بصورة منتظمة لتثبيط عملية التنمية في دول العالم الثالث، إلا أن حججهم في ذلك لا تكفي لدعم النظرية وأن هذه الحالات لا يمكن تعميمها على العلاقات بصورة عامة ما بين الدول المتقدمة  والدول النامية. 

ومن حيث الشواهد التجريبية التي تدحض -من وجهة نظر النقاد- الإفتراض السابق لمنظري التبعية عن مسؤولية النظام الرأسمالي العالمي عن تخلف دول العالم الثالث، توجد نماذج لبعض دول العالم الثالث كالبرازيل والأرجنتين و دول رابطة جنوب شرق آسيا-Association of Southeast Asian Nations وغيرها من الدول التي أثبتت إستطاعتها في تحقيق قفزة إقتصادية وتنموية كبيرة ومن ثم إندماجها في الاقتصاد العالمي.

3- الخلط ما بين مفهومي التبعية والتخلف، حيث استطرد منظرو التبعية في الربط ما بين هاذين المفهومين، ولكن في الواقع تعتبر ظاهرة التبعية -كظاهرة تصف العلاقة بين الدول- ظاهرة عامة موجودة في كافة علاقات الدول ببعضها البعض، فلا وجود لدولة مستقلة بنفسها إستقلالاً تاماً عن الدول والتفاعلات الدولية الأخرى، ولكن الدول تتفاوت في درجة تبعيتها لغيرها، ويدل على ذلك أن هناك دول تصنف على أنها متقدمة وفي ذات الوقت تابعة لغيرها ككندا مثلاً، ويصدق هذا بصفة عامة على الدول الصغرى المتقدمة إقتصادياً كدول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، بل حتى إن الدول الرأسمالية الكبرى تعاني من تبعية في مجال الموارد الأولية اللازمة لصناعتها مثل النفط.

ونتيجة لهذه الإنتقادات وغيرها، طُورت نسخة جديدة من التنظير النيو-ماركسي مكملة للتيارات السابقة، والتي حاولت أن تُعمق التحليل المستند إلى دراسة شاملة وتشريح مُفصل لبينة النظام الرأسمالي العالمي وتأثيرها على التطور اللامتكافئ لإقتصاديات دول العالم، وعرفت هذه النسخة بإتجاه النظام - العالمي.

 

3- نظرية النظام العالمي (World System Theory):

يعتبر المنظر الأمريكي إيمانويل فالرشتيان-Immanuel Wallerstien (1930-2019) من أبرز منظري هذا النظرية، والتي تُعد في جوهرها مكملة لما سبقها من تيارات وإتجاهات ماركسية، وتحديداً تيار المركز - المحيط، حيث أضافت لهذه العلاقة تحليلاً جديداً وطرف ثالثاً في هذه العلاقة هو (شبه المحيط-Semi Periphery). 

وعلى خلاف تيار التبعية، فقد شعر فالرشتاين بالإحباط من العرف السائد في التحليل والذي يتعامل مع المجتمعات الفردية بوصفها وحدات التحليل الرئيسية، وذلك عندما حَصر منظرو التبعية تركيزهم في دراسة وتحليل مجتمعات مجزأة مثل أمريكا اللاتينية، وقضايا جزئية هي التخلف والتنمية، وحوّل فالرشتيان التحليل نحو الحالة الكلية أو الشاملة ودراستها في مختلف مناطق العالم المتناقضة وفي فترات زمنية  متعاقبة من أجل كشف النقاب عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى التطور اللامتكافئ، ومن ثم قام فالرشتيان بناءً على إعتقاده بوجود إنتشار عالمي للتنمية اللامتكافئة بصياغة إطار فكري ممنهج أطلق عليه: نظرية التنمية الشاملة.  

تاريخياً ترجع نشأة هذا التيار إلى فترة منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وقد ظهر بقوة كرد فعل لإخفاقات نظرية التبعية وعجزها في تفسير بعض الأحداث الاقتصادية التي ناقضت إفتراضاتها حول مأزق التخلف والتنمية في دول العالم الثالث، ومن أبرز هذه الأحداث النمو السريع الذي شهدته بعض دول جنوب شرق آسيا والتي أصبحت بعد النمو تنافس الولايات المتحدة الأمريكية في بعض المجالات كالإلكترونيات مثلاً، وأيضاً بعض الأزمات التي حدثت في دول من الكتلة الشرقية الإشتراكية والتي دفعت بها نحو الإنفتاح على الرأسمالية العالمية بصورة غير متوقعة وأبرز هذه الدول كانت الصين، حيث حولت تحالفها التقليدي مع الإتحاد السوفييتي بعد خلافات آيديولجية إلى تحالف مع الممثل الأبرز للرأسمالية العالمية الولايات المتحدة الأمريكية.

- مفهوم النظام الرأسمالي العالمي:

وفقاً لرؤية أنصار هذاه النظرية فإن العلاقات الدولية هي نتاج لهيكل الرأسمالية، وأي محاولة لفهم السياسة العالمية لا بد أن تنطلق من فهم ما يحدث داخل هيكل الرأسمالية العالمية، ويحاول منظرو هذه النظرية تفسير الظواهر الاقتصادية والإجتماعية والثقافية في العالم الثالث انطلاقاً من النظام الرأسمالي العالمي كوحدة تحليل رئيسية، حيث أن البدء بالنظام العالمي كوحدة تحليلية يعني التلازم البنيوي لظاهرتي النمو والتخلف.
ويعرف فالرشتاين النظام-العالمي بأنه: "ذلك النمط الذي يحتوي على عدم مساواة تراتبية في التوزيع تستند على المركز في أنواع من الإنتاج" .

ويلخص فالرشتيان مجموعة من الأفكار على شكل نقاط لتوضيح مفهوم النظام - العالمي بتصوره:

1- إن مفهوم نظام إقتصادي عالمي لا يرتبط بالقرن العشرين، ولم يأتي مع الاقتصاديات القومية، ولا مع التقسيم المؤسسي للعمل، وإنما كان موجوداً على أقل تقدير في جزء من العالم منذ القرن السادس عشر، وأن هذا النظام لم يكن قائماً إلا في جزء من العالم، لا سيما في أنحاء من أوروبا والأمريكيتين، لكنه توسع مع مرور الزمن حتى بات يشمل جميع أنحاء المعمورة.

2- إن الاقتصاد العالمي الرأسمالي منذ قدومه إلى الوجود يمتلك حدوداً هي أوسع من حدود أي وحدة سياسية، لذلك فإن واحدة من أهم الصور الأساسية لإقتصاد عالمي رأسمالي هي: أنه لا يوجد كيان سياسي يسيطر على كامل المناطق الخاضعة له.

3- إن الهيكل السياسي الأكبر لإقتصاد عالمي رأسمالي هو نظام بين الدول، من خلاله تأخذ الهياكل المسماه بـ"الدول ذات السيادة" شرعيتها ويتم تحديدها، لذلك لا توجد دولة داخل النظام حتى تلك التي تمتلك قوة عظمى تكون مستقلة بشكل كلي، وكل ما هنالك هو أن بعض الدول تأخذ مساحة أكثر من الإستقلال عن غيرها.

4- إن النظام العالمي هو تكوين معقد من الثقافات واللغات والأديان والآيدولوجيات، ولكن هذا التكوين ليس عشوائياً.

5- إن المؤسسات الإجتماعية الكبرى في الاقتصاد العالمي الرأسمالي، سواء الدول أو الطبقات أو الأمم أو الأُسر يتم تشكيلها كلها من خلال تطور عمل الاقتصاد العالمي.
6- إن الاقتصاد العالمي الرأسمالي هو نظام إجتماعي تاريخي، وأن نسبة إحتمالية التغيير في هذا النظام مرتفعة إلى درجة إمكانية زواله يوماً ما وتحوله إلى نظام آخر.
ويرى فالرشتاين أيضاً أن لأي نظام صفتين تحددان معالمه:

أ- ترابط العناصر التي تكوّن هذا النظام، حيث ترتبط هذه العناصر في إطار علاقة ديناميكية نشطة فيما بينها، ولفهم إسهامات كل عنصر وسلوكه ووظائفه فينبغي أن يُفهم موقع هذا العنصر ضمن الإطار الكلي الذي يدور فيه.

ويعتقد أيضاً أن محاولات التمييز والتفريق ما بين هذه العناصر على إختلافها (كالعوامل السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية أو غيرها) هي محاولات مُضللة، وذلك لأنه لا يمكننا فهم أي مكوّن داخل أي نظام بمعزل عن غيره، ولذلك كان الأسلوب الكلي هو الأسلوب الصالح الوحيد لذلك.

ب- أن الحياة داخل النظام هي ذاتية الإحتواء -تقريباً-، وهذا يعني أنه إذا عُزل النظام عن المؤثرات الخارجية فإن نتيجة التفاعلات داخله تكون متطابقة تماماً.

وبهذا يتعين علينا عند محاولة تفسير التغيرات ضمن النظام أن نُركز على هذه التفاعلات الديناميكية التي تحدث التغيير داخل النظام، وليس عن طريق البحث عن العوامل الخارجية -والتي ليست من جنس النظام-. 

ومما يميز الاقتصاد الحديث بنظر فالرشتيان أنه ذو هيكل دولي هرمي ويعكس نوعاً من التراتبية الاقتصادية التي تجعل عدداً قليلاً من الدول الرأسمالية تعتلي وتحتكر قمة الهرم وهي دول المركز - Core States، وعدد كبير من الدول التي تقبع في قاعدة الهرم وهي دول الأطراف أو المحيط - Periphery. وتعكس هذه التراتبية حقيقة تقسيم العمل الدولي الذي هو نِتاج تراكم رأس المال في الدول الرأسمالية المتقدمة، وبالمقابل فقد عمل تقسيم العمل الدولي على تثبيط وتأخير التطور في البلدان المتخلفة، وقد أضاف فالرشتاين فئة ثالثة تكونت من خلال ما أفرزته تفاعلات السوق الرأسمالية الدولية وهي دول (شبه الأطراف أو شبه المحيط-Semi Periphery).

يوضح فالرشتاين وظائف كلاً من الفئات السابقة (المركز، أشباه الأطراف، الأطراف) ضمن الهرمية التراتبية للإقتصاد العالمي ومن ثم ضمن النظام - العالمي على النحو التالي:

1- دول المركز: تعمل على الحفاظ على هيمنتها وتفوقها على بقية الفئات، وذلك عبر ضمان تدفق الثروة والمواد الأولية من تلك الدول، ضمن علاقات إستغلال إقتصادية، والتلويح المستمر باللجوء للقوة العسكرية إن تطلب الأمر ذلك.

2- دول الأطراف: تعتبر الأرض الخصبة لإنتشار طبقة الكومبرادور- Comprador Class (وهي الطبقة التي يرى الماركسيون عموماً أنها تحكم الدول المُستغلة لصالح الرأسمالية العالمية وتحقق مصلحة دول المركز، وذلك في مقابل حصولها على إمتيازات ومنافع شخصية).

3- دول أشباه الأطراف: أن تجعل من العالم مكاناً آمناً للرأسمالية العالمية، وتستفيد هذه الدول من علاقتها بالطرفين السابقين.

ولفهم خصائص كل فئة من هذه الفئات وطبيعة العلاقة فيما بينها يتصور ستيف هوبدن-Steve Hobden وريتشارد وين جونز-Richard Wyn Jones الشكل التالي:

 

التنظير الماركسي في العلاقات الدولية

 

يعمل الاقتصاد العالمي من خلال هذا التقسيم الفئوي للدول على تشويه وإعاقة إقتصاديات دول المحيط (وصورة ذلك أن هذا التقسيم الدولي للعمل يؤدي دوراً كبيراً في جعل دول المحيط مصدرة للمواد الأولية ومستوردة للسلع المُصنعة فقط)، وعدم تمكينها من أدوات الإنتاج الاقتصادية وخاصة الإستثمارات الحقيقية والبُنى التحتية وأساليب الإنتاج، وبالتالي إبقائها في حالة من التخلف والضعف والتبعية المستديمة، ومن ثم فإنه كلما إزداد الاقتصاد العالمي ازدهاراً، كلما ازدادت صعوبة تطور دول المحيط وتعاظمت الحاجة إلى الجهد الثوري للإفلات من القوى السوقية العالمية -بحسب تصورهم-. 

ويرى فالرشتيان أن النظام الرأسمالي العالمي يحمل في طياته تناقضات متأصلة فيه، ويصاحبه أزمات حتمية ستؤدي إلى زواله لا محالة، وهذه التناقضات يسوقها والمؤيديين على النحو التالي:

1- إستمرار الخلل بين العرض والطلب، وحيث أن القرارات حول طبيعة السلع والكميات التي يجب إنتاجها ما زالت تُصنع على مستوى المؤسسات، فإن الخلل سيبقى كنتيجة غير مقصودة للمكننة والتصنيع.

2- بينما يكون منطقياً بالنسبة للرأسماليين تحقيق أرباح على المدى القصير عبر سحب الفائض من الإستهلاك المباشر، إلا أن إنتاج فائض إضافي على المدى الطويل سيحتاج إلى طلب كثيف يمكن تلبيته بإعادة توزيع الفائض فقط.

3- وجود حدود للدرجة التي تسطيع بها الدولة إلحاق العمال قسراً للمحافظة على شرعية النظام الرأسمالي.

4- وجود تناقض ما بين الواحد والكل، والمقصود بذلك تعايش نظام متعدد الدول ضمن نظام عالمي واحد، فبينما يسهل هذا التعايش من عملية توسع النظام إلا أنه يُعيق أي محاولة لتطوير تعاون حقيقي على مستوى أكبر لموجهة الأزمات الكبرى التي تطال النظام ذاته.

 

- الإنتقادات الموجهة لنظرية النظام العالمي:

على الرغم من تجاوز نظرية النظام العالمي للكثير من الإنتقادات التي وُجهت إلى التيارات الماركسية السابقة لها، إلا أنها أيضاً لم تسلم من الإنتقادات التي لاحقتها، ويسوق روبرت غيلبن أبرز هذه الإنتقادات على النحو التالي:

1- كما أن النظام الاقتصادي العالمي يؤثر في سياسات الدول القوية، فإنه يتأثر بها بالقدر ذاته (أي أن التأثير متبادل ما بين دول المركز والنظام وليس كما يدعي منظري النظام العالمي بأن دول المركز تهيمن وتسيّر هذا النظام وفقاً لمصالحها).

2- عدم الجدوى من اختزال العلاقات الدولية بمسائل الاقتصاد فقط، وأن هناك إعتبارات سياسية وإستراتيجية تعلو وتحدد الإعتبارات الاقتصادية.

3- أن قوة الدول سواءً المتقدمة أو المتخلفة ومكانتها في الاقتصاد العالمي تتأثر بشكل كبير بالعوامل الإجتماعية والسياسية الداخلية، ويشهد لذلك التجربتين الألمانية واليابانية، حيث أثبتت هاتين الدولتين أن ما يحدد وضع المجتمع في التقسيم الدولي للعمل هو طبيعة المجتمع وسياسته أكثر من أي شيء آخر.

4- أن هيكل السوق الدولي متغير وفقاً لمعطيات أخرى وليس ثابتاً، فقد تغير هيكل السوق الدولي بصورة دارماتيكية على مدى القرون الأخيرة بسبب التطور في التقسيم الدولي للعمل، وتغير موقف الاقتصاديات في النظام العالمي.

5- يرى غيلبين أن النظام العالمي الحديث لم يظهر بشكله الحالي إلا في عقود قليلة سابقة للحرب العالمية الأولى، وأن التقسيم الدولي المعاصر للعمل بين دول الشمال الصناعية المتقدمة ودول الجنوب النامية والمتخلفة لم يتم إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وأن هذا النظام جاء كنتيجة لتطور الدول الرأسمالية وليس هو السبب في تطورها (خلافاً لما يفترض ويحلل فالرشتاين).

 

4- النظرية النقدية - Cirtical Theory:

تشغل النظرية النقدية حيزاً مهماً ضمن أهم النظريات "التأملية/ما بعد الوضعية" التي برزت في حقبة الثمانينات من القرن العشرين، وجاء ظهورها كرد فعل على هيمنة وإقصاء التيار العقلاني المتمثل في توليفة نيو-نيو (الواقعية الجديدة مع الليبرالية الجديدة)، وظهرت أيضاً كمحاولة لتنقيح الإرث الماركسي وإعادة ترويجه من جديد ليصبح قادراً على المنافسة النظرية، وكمشروع فكري وعملي للعلاقات الدولية يتجاوز رهانها النظري هيمنة النظريات العقلانية/الوضعية وواقعها العملي (أي العالم الرأسمالي) نحو أفاق جديدة من العدالة والمساواة بين الأفراد والمجتمعات والدول. 

وينبغي إفراد النظرية النقدية بشكل مستقل لأنها تنتمي لنوع مختلف من النظريات والتي تعرف بـ: ( النظريات التأملية أو ما بعد الوضعية - Postpositivism) وهي مجموعة من النظريات المتنوعة في أطروحاتها والتي تختلف بشكل جذري عن النظريات الوضعية التي تنتمي لها التيارات التي ذكرت سابقاً من حيث المنهجية والإفتراضات والتفسيرات والنتائج، وقد تمت الإشارة لهذه النظرية هنا لأنها تشترك مع ما تقدم من نظريات من حيث أنها ترتكز على الفكر الماركسي.

 

ختاماً؛ التنظير الماركسي في الميزان:

على الرغم من كافة الإنتقادات السابقة من المخالفين للأطروحات الماركسية إلا أن هناك من يرى في ما قدمته الفلسفة الماركسية في حقل نظريات العلاقات الدولية نواحٍ إيجابية، حيث كانت النظرية الماركسية إحدى النظريات الرئيسية في فترة الحرب الباردة ومن ثم شهدت عودة قوية وتغلغلت في معظم النظريات التأملية/ما بعد الوضعية-Postpositivism ومن أبرزها النظرية النقدية، وهي النظريات المناهضة للإتجاهات التفسيرية/الوضعية، إلا أنها لا زالت تواجه التحديات الحقيقية والمتعلقة بأساسها النظري الهش، وخاصةً بعد زوال بريقها الآيديولجي الذي كان لامعاً إبان الحرب الباردة، ولا بد لنا من التطرق إلى الإسهامات والتحديات التي وصفت بها النظرية الماركسية، وعلى النحو التالي:

أ- إسهامات الماركسية في حقل نظريات العلاقات الدولية:

تعتبر النظرية الماركسية إضافة حقيقية لعملية التنظير في حقل العلاقات الدولية، ويمكن تسليط الضوء على مميزاتها كما لخص عناصرها محمد حمشي على الشكل التالي:

1- استطاع التنظير الماركسي أن يكسر الهيمنة الأورو-أمريكية على حقل العلاقات الدولية، حيث تمثل الماركسية (وخاصة نسخة التبعية) المقاربة الوحيدة الآتية من دول الجنوب، ضمن حقل تنتمي نظرياته كلها للعالم الغربي.

2- القدرة المستمرة لنظرية التبعية على تفسير معضلة التنمية في الدول الأقل تطوراً.

3- القدرة المستمرة لنظرية النظام العالمي على وصف وتفسير إنقسام النظام التجاري العالمي الجديد (في ظل قيام منظمة التجارة العالمية)، حيث يمكن إعادة رسم صورة النظام التجاري العالمي الجديد بإستخدام متغيري المركز والمحيط.

مثال: يمكن ملاحظ تحول الإتحاد الأوروبي إلى "مركز" ضمن نطاقي القارة الأوروبية وجنوب المتوسط اللذين أصبحا بمثابة "المحيط" لذلك المركز، وينطبق ذات الأمر على اليابان كمركز لمحيطها المتمثل في جنوب شرق آسيا.

4- قدرة الماركسية على تفسير الكيفية التي يهمين بها العامل الاقتصادي على بقية العوامل الأخرى المؤثرة في العلاقات الدولية، ويشهد لذلك مستجدات ما بعد الحرب الباردة.

5ـ- قدرة الماركسية على تفسير ظاهرة العولمة، حيث يشير كل من هوبدن وجونز إلى عدم إمكانية إقصاء النظريات الماركسية من التحليلات ذات المصداقية حول العولمة، بل ويعتبران أيضاً أن ماركس يُعد أو منظر حول العولمة.

6- أن الماركسية لا يقتصر دورها الحالي على إلهام النظريات ما بعد الوضعية، وإنما يمتد هذا الدور لإمكانية إعتبارها المصدر والمرجع لأغلب الحركات الإجتماعية المناهضة للعولمة-Anti Globalizations Movements، فكما قادت قراءات لينين للنظام الرأسمالي العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي إلى القول بأن: "الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية" ، فإن القراءات الحالية للنظام الرأسمالي تقود -بحسب العديد من المفكرين اليساريين- إلى القول بأن: "العولمة هي أعلى مراحل الرأسمالية“.

7- الإسهام الذي يصفه بعض الأكاديمين "بالحضور المحتشم" للماركسية الجديدة (نسخة التبعية) كطرف في بدايات النقاش الثالث-Third Debate في العلاقات الدولية فترة ثمانينات القرن العشرين، وذلك قبل أن يتم إقصائها من قبل ما يعرف  بـ"تحالف" نيو-نيو (الواقعية الجديدة، والليبرالية الجديدة) على أساس الخيار العقلاني في مقابل التأمليين، الذين عادوا أيضاً مرتكزين على الفكر الماركسي في النقاش الرابع فترة التسعينيات على صورة النظرية النقدية.

ويرى اندرو لينكليتر-Andrew Linklater ثلاثة إسهامات رئيسية رغماً عن الإنتقادات الكثيرة للماركسية، يوردها مجملة على النحو التالي:

1- أن المادية التاريخية بتركيزها على الإنتاج وعلاقات الملكية والطبقات تُعد معادلة مهمة مقابلة للأطروحات الواقعية التي تزعم أن الصراع هو صراع على القوة العسكرية ولتحقيق الأمن القومي وما حدد السياسة العالمية لآلاف السنين.

2- أن الماركسيين التقليديين والجدد قد قدموا تفسيرات للنظام العالمي الحديث ترمي إلى بيان كيفية تشكيل العلاقات بين المجتمعات لعولمة نظام الإنتاج الرأسمالي الحديث.

3- نقد ماركس للإقتصاد السياسي الليبرالي ووصفه بأن التفسيرات المُقدمة للعالم الإجتماعي نادراً ما تكون موضوعية وبريئة كما تبدو عليه، فقد تقوم بذلك الدور حتى دون قصد.   

ب-  التحديات التي تواجه التنظير الماركسي في العلاقات الدولية:

تجدر الإشارة في البداية إلى أن العديد من المختصين في حقل العلاقات الدولية لا يقرون بوجود نظرية ماركسية بمعنى "النظرية"، بل إنهم يرون أن كل ما هنالك بعض المفاهيم الماركسية الأساسية والتي حاولت توضيح بينة ومسار النظام العالمي، أي أنها مجرد تعميمات وتأكيدات تستند إلى بعض الممارسات السياسية والكثير من الآيدويولجيا.

ويرى عبد الناصر جندلي مجموعة من الأسباب التي تدفع بالقول نحو عدم وجود نظرية ماركسية للعلاقات الدولية، ويعتبر هذه الأسباب بمثابة تحديات وعقبات تحتم على الماركسيين مواجهتها والعمل على تجاوزها، وهذه الأسباب:

1- تركيز إهتمام الماركسيين في البيئة الداخلية للمجتمع الواحد، اعتقاداً منهم بأن التحولات الكبرى تبدأ من تناقضات المجتمع الواحد.

2- عدم فصلهم بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية للدولة، وبالتالي تجاهلهم للبيئة الخارجية للمجتمع، وفي ذلك يقول فلاديمير لينيين: "ليس هناك فكرة أخطر وأشد ضرراً من الفكرة المتمثلة في فصل السياسة الداخلية عن السياسة الخارجية".

3- يهتم التنظير في العلاقات الدولية على بجوانب أخرى فضلاً عن الجانب الاقتصادي الذي يُعد محور تفسير الماركسيين للظواهر على اختلافها. 

4- عدم إلمام الماركسيين التقليديين بالظواهر الدولية واقتصارهم على ظاهرتي الإمبريالية والصراع الطبقي وجعلهما كمتغيرين أساسيين في تحليلهم، من خلال اعتبارهم الطبقة كفاعل (Actor) والإمبريالية كقوة محفزة (Motive).

5- رغم أن العلاقات الدولية هي علاقات بين الدول، فإن االماركسيين التقليديين ينكرون دور الدولة، بل ويذهبون إلى حد دعوتهم بضرورة زوال الدولة، معتبرين أن الصراع ليس صراعاً دولياً (أي بين الدول)، وإنما صراع طبقي بين الطبقة البرجوازية وطبقة البروليتاريا، وهو صراع آيديولوجي- إقتصادي.

6- الإنتقادات التي طالت إفتراض لينين حول ربطه الحتمي ما بين الرأسمالية والإمبريالية، حيث يفترض أن الدولة الرأسمالية ينتج عنها حتماً الممارسات الإمبريالية، ولكن الواقع يُبين أن الدول الرأسمالية لم تكن كلها إمبريالية، كما أن الدول الإمبريالية لم تكن كلها رأسمالية بالضرورة، وهو ما شكك في صدق هذا الافتراض وما ترتب عليه من تفسيرات وتحليلات.   

 فيما يشير كل من بول فيوتي ومارك كوبي إلى خمسة مشكلات أو تحديات رئيسية تواجه التنظير الماركسي للعلاقات الدولية (وبصورة خاصة نسختي التبعية والنظام العالمي) وهي:

    1- مشكلة السببية (The Question of Causality) ؛ حيث لم يحصر أنصار التبعية أمرهم بعد في مسألة المتغير المستقل والمتغير التابع بالنسبة لظاهرتي (التخلف والتبعية) -كما تقدم-، فهل التخلف هو المسبب للتبعية؟ أم أن التبعية هي المسبب للتخلف؟، وإذا ما أراد منظرو التبعية الخروج من هذا المأزق المنهجي فعليهم أن يتبنوا أحدهما كمتغير مستقل لكي يتسنى لهم دراسة الآخر، فلا يعقل أن يكون المتغير المدروس مستقلاً وتابعاً في ذات الوقت.

2- مشكلة الإعتماد على الاقتصاد (Reliance on Economics) ؛ حيث يختزل الماركسيون التفاعلات الأساسية التي تحدث على مستوى النظام الدولي في عملية تراكم رأس المال والديناميكيات المرتبطة به، مما يؤدي بهم إلى إهمال التفسيرات الأخرى غير الاقتصادية كالسياسية والإستراتيجية للإمبريالية والعلاقات بين الدول.

فالعامل الاقتصادي لا يستطيع مثلاً تقديم تفسيرات مقنعة بشأن طبيعية العلاقات التي كانت قائمة بين الدول قبل ظهور الرأسمالية، ولا تصمد هذه التفسيرات أمام تفسيرات الواقعيين (من خلال الفوضى والمعضلة الأمنية) للحروب التاريخية مثلاً، وعليه يجب على الماركسيين الإنتباه إلى بقية العوامل الأخرى التي تؤثر بشكل كبير في السياسة العالمية وعند التنظير لها.

3-مشكلة سيطرة النظام (System Dominance) ؛ بالرغم من أن الماركسيين (خاصة التقليديين منهم) قد اهتموا في تحليلاتهم المختلفة بالعوامل الداخلية للدول، إلا أنه عندما يتعلق الأمر بظواهر الفقر والتبعية فإنهم يلجأون بإفراط وبصورة كلية إلى الإعتماد على العوامل الخارجية (الدولية) في تحليل وتفسير تلك الظواهر، ومن ثم يهملون المتغيرات الداخلية المتعلقة بالمجتمع، ويترتب على ذلك أنهم يلحقون كل المشاكل التي تعانيها الدول المختلفة بالدول الرأسمالية المتقدمة.

وهنا يحتاج الماركسيون إلى إعادة تحديد موقفهم بشأن مستويات التحليل المُعتمدة كي تصبح نظرياتهم أكثر مصداقية وصلابة.

4- مشكلة الصرامة النظرية (Theoritical Rigidity) ؛ حيث يعاني التنظير الماركسي من مشكلة منهجية حادة وذلك عند لجوئهم لتفحص ودراسة حالات فردية في سبيل بناء نظرية عامة (كنظرية النظام العالمي) ، وبالمقابل يقتصر الماركسيون على تفسير كل تجارب وخبرات المجتمع وكل التغيرات السياسية والاقتصادية والإجتماعية في ضوء عدد قليل جداً من المفاهيم مثل التبعية، ويضاف لذلك أن الماركسيين وبدلاً من تعديل نظرياتهم أو مفاهيمهم وفقاً لما تثيره دراسة الحالة من أسئلة ودلائل تجريبية، فإنهم يدّعون بأن دراسة الحالة يجب إستخدامها فقط عندما يظهر أنها تستطيع تعزيز حججهم بالأدلة، مما يمنع في الحقيقة أي توتر بين النظرية والنتائج.

5- تفسير الحالات الشاذة (Accounting Anomalies) ؛ يضطرب الماركسيون (خاصة نسخة التبعية) في تفسير بعض حالات التطور والتقدم الاقتصادي نسبياً التي شهدتها بعض دول العالم الثالث مثل: (تايوان، فنزويلا، البرازيل، سنغافورة، كوريا الجنوبية) ، والتي لا تمثل نماذج للتنمية المستقلة بل إنها استفادت بشكل كبير -وفي وضع التبعية- من النظام الرأسمالي العالمي. وهنا ينبغي الإنتباه إلى أن تزايد عدد الدول في العالم الثالث التي تُفلت من عِقال التخلف (بعد أن كانت مجرد حالات شاذة) ستهدم إفتراضات التبعية كافة.

 

 

 

المصادر والمراجع:

روبرت غيلبين، الاقتصاد السياسي للعلاقات الدولية، ترجمة مركز الخليج للأبحاث، الطبعة الأولى،2004، الإمارات العربية المتحدة.

مارك روبرت، الماركسية والنظرية النقدية، فصل من كتاب (نظريات العلاقات الدولية: التخصص والتنوع)، ترجمة ديما الخضرا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2016، قطر.

د. عبد الناصر جندلي، التنظير في العلاقات الدولية بين الإتجاهات التفسيرية والنظريات التكوينية، دار الخلدونية، الطبعة الثانية، 2007، الجزائر.

محمد الطاهر عديلة، أطروحة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه بعنوان: تطور الحقل النظري للعلاقات الدولية دراسة في المنطلقات والأسس، جامعة الحاج لخضر-باتنة، الجزائر، 2014-2015.

جيمس دورتي، روبرت بالستغراف، النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية، ترجمة د. وليد عبدالحي سليم، كاظمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1985، الكويت.

إيمانويل وولرستين، تحليل النظم الدولية، ترجمة أكرم حمدان، مركز الجزيرة للدراسات، الطبعة الأولى 2015، قطر.

مارتن جرفيش، خمسون مفكراً في العلاقات الدولية، ترجمة مركز الخليج للأبحاث، الطبعة الأولى، 2008، الإمارات العربية المتحدة.

د. خالد موسى المصري، مدخل إلى نظرية العلاقات الدولية، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2014، سوريا.

ستيف هوبدن وريتشارد وين جونز، نظرية النظام العالمي، فصل من كتاب (عولمة السياسة العالمية)، ترجمة مركز الخليج للأبحاث، الطبعة الأولى، 2004، الإمارات العربية المتحدة.

د. أنور محمد فرج، نظرية الواقعية في العلاقات الدولية -دراسة نقدية مقارنة في ضوء النظريات المعاصرة-، مركز كردستان للدراسات الإستراتيجية، الطبعة الأولى، 2007، العراق.

أندرو لينكليتر، ماركس والماركسية، فصل من كتاب (نظريات العلاقات الدولية)، ترجمة محمد صفار، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2014، مصر.

محمد حمشي، الإتجاه الماركسي للتنظير في العلاقات الدولية، 17/01/2020، منشور عبر: (موقع ملتقى الباحثين السياسيين العرب).

لمزري مفيدة وسالمي وردة، مقال بعنوان: (الشركات المتعددة الجنسيات وإقتصاديات الدول النامية)، مجلة إيليزا للبحوث والدراسات-المركز الجامعي إيليزي، المجلد الخامس، العدد 1، 2020، الجزائر.

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia